قالوا: وهذا كقوله تعالى:
{إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} (سورة القلم:17)
فالألف واللام ليس للعموم، ولم يتقدم معهود لفظي، وإنما هو المعهود الذهني الذي دل عليه السياق وهو البستان قالوا: وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء.
قال الله تعالى:
{قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى اسم ممن معك} (سورة هود:48)
وإنما كان في السفينة حين استقرت على الجودي ونضب الماء عن وجه الأرض أمر أن يهبط إليها هو ومن معه مباركاً عليه وعليهم.
قال تعالى:
{اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم} (سورة البقرة:61)
وقال تعالى:
{وإن منها لما يهبط من خشية الله} (سورة البقرة:74)
وفي الأحاديث واللغة من هذا كثير.
قالوا: ولا مانع ـ بل هو الواقع ـ أن الجنة التي اسكنها آدم كانت مرتفعة عن سائر بقاع الأرض، ذات أشجار وثمار وطلال ونعيم ونضرة وسرور، كما قال تعالى:
{إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى} (سورة طه:118)
أي: لا يذل باطنك بالجوع ولا ظاهرك بالعرى
{وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحي} (سورة طه:119)
أي: لا يمس باطنك حر الظمأ ولا ظاهرك حر الشمس، ولهذا قرن بين هذا وهذا، وبين هذا وهذا؛ لما بينهما من المقابلة.
فلما كان منه ما كان من أكله من الشجرة التي نهى عنها، أهبط إلي أرض الشقاء والتعب والنصب، والسعي والكد والنكد، والابتلاء والاختبار والامتحان، واختلاف السكان ديناً وأخلاقاً وأعمالاً، وتصوراً وإرادات وأقوالاً وأفعالاً، كما قال:
{ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلي حين} (سورة البقرة:36)
ولا يلزم من هذا أنهم كانوا في السماء كما قال تعالى:
{وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض، فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً} (سورة الإسراء:104)
ومعلوم أنهم كانوا فيها ولم يكونوا في السماء. قالوا: وليس هذا القول مفرعاً على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم، ولا تلازم بينهما، فكل من حكى عنه هذا القول من السلف وأكثر الخلف، ممن يثبت وجود الجنة والنار اليوم، كما دلت عليه الآيات والأحاديث الصحاح، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقوله تعالى:
{فأزلهما الشيطان عنها} (سورة البقرة:36)
أي: عن الجنة (فأخرجهما مما كانا فيه) أي: من النعيم والنضرة والسرور إلي دار التعب والكد والنكد، وذلك بما وسوس لهما وزينه في صدورهما. كما قال تعالى:
{فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} (سورة الأعراف:20)
يقول: ما نهاكما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، أي: لو أكلتما منها لصرتما كذلك.
(وقاسمهما) أي: حلف لهما على ذلك (إني لكما لمن الناصحين)، كما قال في الآية الأخرى:
{فوسوس إليه الشيطان، قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} (سورة طه:120)
أي: هل أدلك على الشجرة التي إذا أكلت منها حصل لك الخلد فيما أنت فيه من نعيم، واستمررت في ملك لا يبيد ولا ينقضي؟ وهذا من التغرير والتزوير والإخبار بخلاف الواقع.
والمقصود أن قوله شجرة الخلد التي إذا أكلت منها خلدت، وقد تكون هي الشجرة التي
قال الإمام احمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة، عن أبي الضحاك، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ولا يقطعها: شجرة الخلد"
وكذا رواه أيضا عن غندر وحجاج، عن شعبة. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة أيضا به. قال غندر: قلت لشعبة: هي شجرة الخلد؟ قال: ليس فيها هي. وممكن تفرد به الإمام احمد.
وقوله:
{فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} (سورة الأعراف:22)
كما قال في طه:
{فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} (سورة طه:121)
وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم، وهي التي حدته على أكلها، والله أعلم.
وعليه يحمل الحديث الذي رواه البخاري: حدثنا بشر بن محمد، حدثنا عبد الله، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه: "لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها"
تغرد به من هذا الوجه.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة به.
ورواه احمد ومسلم عن هارون بن معروف، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث عن أبي يونس، عن أبي هريرة به.
وفي كتاب التوراة التي بأيدي أهل الكتاب: أن الذي دل حواء على الأكل من الشجرة هي الحية، وكانت من أحسن الأشكال وأعظمها، فأكلت حواء عن قولها وأطعمت آدم عليه السلام، وليس فيها ذكر لإبليس؛ فعند ذلك انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فوصلا من ورق التين وعملا مآزر، وفيهما أنهما كان عريانين، وكذا قال وهب بن منبه: كان لباسهما نوراً على فرجه وفرجها.
وهذا الذي في هذه التوراة التي بأيديهم غلط منهم، وتحريف وخطأ في التعريب؛ فإن نقل الكلام من لغة إلي لغة لا يتيسر لكل أحد؛ ولاسيما ممن لا يكاد يعرف كلام العرب جيداً، ولا يحيط علما بفهم كتابه أيضاً، فلهذا وقع في تعريبهم لها خطأ كثير لفظاً ومعنى. وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس في قوله:
{ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما} (سورة الأعراف:27)
فهذا لا يرد لغيره من الكلام والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا على بن الحسين بن إشكاب، حدثنا عن عاصم، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً، كثيرا شعر الرأس كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدأ منه عورته، فلما نظر إلي عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن عز وجل: يا آدم مني تفر؟ فما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا، ولكن استحياء"
وقال الثوري عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
{وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} (سورة الأعراف:22)
ورق التين. وهذا إسناد صحيح إليه، وكأنه مأخوذ من أهل الكتاب، وظاهرة الآية يقتضي أعم من ذلك، وبتقدير تسليمهوروي الحافظ ابن عساكر عن طريق محمد بن إسحاق، عن الحسن بن ذكوان، عن الحسن البصري، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أباكم آدم كان كالنخلة السحوق، ستون ذراعاً، كثير الشعر، مواري العورة، فلما أصاب الخطيئة في الجنة بدت له سوأته فخرج من الجنة، فلقيته شجرة فأخذت بناصيته، فناداه ربه: أفراراً مني يا آدم؟ قال: بل حياء منك والله يا رب مما جئت به"
ثم رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عتي بن ضمرة عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وهذا أصح، فإن الحسن لم يدرك أبيا.
ثم أورده أيضا من طريق خيثمة بن سليمان الأطرابلسي، عن محمد بن عبد الوهاب أبي قرصافة العسقلاني، عن آدم بن أبي إياس، عن سنان، عن قتادة، عن أنس مرفوعاً بنحوه.
{وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين* قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} (سورة الأعراف:22ـ23)
وهذا اعتراف ورجوع إلي الإنابة، وتذلل وخضوع واستكانة، وافتقار إليه تعالى في الساعة الراهنة، وهذا السر ما سرى في أحد من ذريته إلا كانت عاقبته إلي خير في دنياه وأخراه.
{قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم وفي الأرض مستقر ومتاع إلي حين} (سورة الأعراف:24)
وهذا خطاب لآدم وحواء وإبليس، قيل والحية معهم، أمروا أن يهبطوا من الجنة في حال كونهم متعادين متحاربين. وقد يستشهد لذكر الحية معهما بما ثبت في الحديث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الحيات وقال: "ما سالمناهن منذ حاربناهن"
وقوله في سورة طه:
{قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو} (سورة الآية:123)
هو أمر لآدم وإبليس، واستتبع آدم: حواء، وإبليس: الحية. وقيل: هو أمر لهم بصيغة التثنية كما في قوله تعالى:
{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} (سورة الأنبياء:78)
والصحيح أن هذا لما كان الحاكم لا يحكم إلا بين اثنين مدع ومدعي عليه، قال: (وكنا لحكمهم شاهدين). وأما تكريره الإهباط في سورة البقرة في قوله:
{وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلي حين* فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم* قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (سورة البقرة:36ـ39)
فقال بعض المفسرين: المراد بالإهباط الأول: الهبوط من الجنة إلي السماء الدنيا، وبالثاني: من السماء الدنيا إلي الأرض.
وهذا ضعيف لقوله في الأول: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلي حين). فدل على أنهم اهبطوا إلي الأرض بالإهباط الأول والله أعلم.
والصحيح أنه كرره لفظاً وإن كان واحداً، وناط مع كل مرة حكماً، فناط بالأول عداوتهم فيما بينهم، وبالثاني الاشتراط عليهم أن من تبع هداه الذي ينزله عليهم بعد ذلك فهو السعيد ومن خالفه فهو الشقي، وهذا الأسلوب في الكلام له نظائر في القرآن الحكيم.
وروي الحافظ ابن عساكر عن مجاهد قال: أمر الله ملكين أن يخرجا آدم وحواء من جواره، فنزع جبريل التاج عن رأسه، وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه، وتعلق به غصن فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة، فنكس رأسه يقول: العفو العفو، فقال الله أفراراً مني؟ قال: بل حياء منك يا سيدي.
وقال الأوزاعي عن حسان ـ هو ابن عطية ـ: مكث آدم في الجنة مائة عام، وفي رواية ستين عام، وبكى على الجنة سبعين عاماً، وعلى خطيئته سبعين عاماً، وعلى ولده حين قتل أربعين عاماً.
رواه ابن عساكر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو روعة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن سعيد، عن ابن عباس قال: اهبط آدم عليه السلام إلي أرض يقال لها "دحنا" بين مكة والطائف.
وعن الحسن قال: اهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بـ"دستيمسان" من البصرة على أميال، واهبطت الحية بأصبهان.
رواه ابن أبي حاتم أيضاً.
وقال السدي: نزل آدم بالهند ونزل معه الحجر الأسود وبقبضة من ورق الجنة، فبثه في الهند فنبتت شجرة الطيب هناك.
وعن ابن عمر قال: اهبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة. رواه ابن أبي حاتم أيضاً.
وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرني عوف، عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى الأشعري، قال: إن الله حين اهبط آدم من الجنة إلي الأرض علمه صنعة كل شيء، وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.
وقال الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو بكر بن بالويه، عن محمد بن احمد بن النضر، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عمار بن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلي غروب الشمس.
.