مجاهدة النفس وتزكيتها
تمهيد:
سبق أن بينا في بحث أهمية التصوف أن للنفس صفات خبيثة وأخلاقاً مذمومة، وأن إزالتها فرض عين ـ كما نص على ذلك عامة الفقهاء ـ ولكن صفات النفس الناقصة لا تزول بالأماني ولا بمجرد الإطلاع على حكم تزكيتها أو قراءة كتب الأخلاق والتصوف، بل لا بد لها بالإضافة إلى ذلك من مجاهدة وتزكية عملية، وفطم لنزواتها الجامحة وشهواتها العارمة
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
تعريف المجاهدة:
قال الراغب الأصفهاني في "مفردات غريب القرآن":
(الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: {وجاهدوا في الله حقَّ جِهادِهِ} [الحج: 78] وقوله: {وجاهدوا بأموالِكُم وأنفُسِكم في سبيل الله} [التوبة: 41] وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم") ["المفردات في غريب القرآن" مادة جهد ص101]. فمجاهدة النفس فطمها وحملها على خلاف هواها المذموم، وإلزامها تطبيق شرع الله تعالى أمراً ونهياً.
دليلها من الكتاب والسنة:
قال الله تعالى: {والذينَ جاهَدوا فينا لنَهديَنَّهم سُبُلَنا} [العنكبوت: 69] [وهي آية مكية، ومن المعلوم أن جهاد الكافرين قد شرع في المدينة المنورة، وهذا يدل على أن المراد من الجهاد هنا جهاد النفس. وقال العلامة المفسر ابن جزي في تفسير هذه الآية: (يعني جهاد النفس). وقال العلامة المفسر القرطبي في تفسيره لهذه الآية: (قال السدي وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال)].
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المجاهدُ مَنْ جاهد نفسَهُ في الله" [أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد وقال: حديث حسن صحيح، وزاد البيهقي في "شعب الإيمان" برواية فضالة: "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب". "مشكاة المصابيح للتبريزي" كتاب الإيمان رقم 34]. وفي رواية: لله.
حكمها:
تزكية النفس فرض عين كما سبق أن بينا ذلك [انظر بحث أهمية التصوف ص28] ولا تتم إلا بالمجاهدة ومن هنا كانت المجاهدة فرض عين من باب: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
قال الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله: (المجاهدة في النفس عبادة ولا تحصل لأحد إلا بالعلم، وهي فرض عين على كل مكلف) ["شرح الطريقة المحمدية" للنابلسي ج1/ص323].
قابلية صفات النفس للتغيير:
لا شك أن النفس الإنسانية قابلة لتغيير صفاتها الناقصة وتبديل عاداتها المذمومة، وإلا لم يكن هناك فائدة من بعثة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ؛ ولا ضرورة لمن بعده من ورثته العلماء العاملين والمرشدين المصلحين.
وإذا كان كثير من سباع الطيور والبهائم قد أمكن ترويضها وتبديل كثير من صفاتها، فالإنسان الذي كرمه الله تعالى وخلقه في أحسن تقويم، من باب أولى.
وليس المراد من مجاهدة النفس استئصال صفاتها ؛ بل المراد تصعيدها من سيء إلى حسن، وتسييرها على مراد الله تعالى وابتغاء مرضاته.
فصفة الغضب مذمومة حين يغضب المرء لنفسه، أما إذا غضب لله تعالى فعندها يصبح الغضب ممدوحاً كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب إذا انتُهكت حرمات الله أو عُطِّل حد من حدوده، ولكنه حين أُوذي في الله وضُرب وأُدمي عقبه يوم الطائف لم يغضب لنفسه ؛ بل دعا لمن آذَوْه بالهداية والتمس لهم العذر فقال: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" [رواه البخاري في صحيحه في كتاب أحاديث الأنبياء].
وكذلك صفة الكبر فهي مذمومة حين يتكبر المسلم على إخوته المسلمين، أما حين يتكبر على المتكبرين الكافرين فتصبح هذه الصفة محمودة لأنها في سبيل الله وضمن حدود شرعه.
وهكذا معظم الصفات المذمومة تحوَّل بالمجاهدة وتُصَعَّد إلى صفات ممدوحة.