فضله وآثاره:
التوكل نتيجة من نتائج الإِيمان، وثمرة من ثمار المعرفة، فعلى قدر معرفة العبد بالله وصفاته يكون توكله، وإنما يتوكل على الله من لا يرى فاعلاً سواه.
والمتوكل على الله تعالى معتز به لا يذل إلا له، واثق به لا يطلب إلا منه، وقد قالوا: قبيح بالمريد أن يتعرض لسؤال العبيد، وهو يجد عند مولاه ما يريد.
ولهذا ربط الله تعالى التوكل بالإيمان فقال: {وعلى اللهِ فليَتَوَكَّلِ المتوكِّلونَ} [المائدة: 23].
وقال: {وعلى اللهِ فليَتَوَكَّلِ المؤمنونَ} [إبراهيم: 11].
ومن يتوكل على الله تعالى حق التوكل ملتجئاً إليه بصدق الحال يكرمْه بالمحبة، ويكفِه ما يهمه من محن وفتن، ويملأ قلبه غنى ويقيناً، ويزيّن ظاهره بالعفة والكرم، قال تعالى: {واللهُ يُحِبُّ المتوكلينَ} [آل عمران: 159]. وقال: {ومَنْ يتوكَّلْ على اللهِ فهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 23].
والتوكل على الله تعالى يبعث في القلوب السكينة والطمأنينة، وخصوصاً عند الشدائد والمحن. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام، حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل) [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، تفسير سورة آل عمران].
فالمتوكل على الله تعالى حقيقةً راضٍ بقضائه، مستسلم لفعله، مطمئن لحكمه، قال بشر الحافي رحمه الله تعالى: (يقول أحدكم: توكلت على الله، وهو يكذب على الله تعالى، ولو توكل على الله تعالى لرضي بما يفعله الله تعالى به) [الرسالة القشيرية ص76].
وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم التوكل، وبيّن أهميته في الحياة وقيمته في إحلال الطمأنينة في النفوس فقال: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بِطاناً" [رواه الترمذي في كتاب الزهد وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك (ج4/ص318) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: الحديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين]. أي تذهب صباحاً وهي جائعة، وتعود مساءً شباعاً. وفي هذا الحديث إشارة إلى أن التوكل لا يتعارض مع الأسباب، بدليل أن الطير غادرت عشها صباحاً باحثة عن رزقها معتمدة على ربها، واثقة به، ولذلك فهي لا تعرف الهم ولا الأحزان.
وقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة الإِسلامية إِلى التوكل على الله تعالى في كل حال، لاسيما عندما يخرج المرء من بيته فقال: "من قال حين يخرج من بيته: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت وكُفيت ووُقيت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي" [رواه أبو داود والنسائي والترمذي في كتاب الدعوات عن أنس بن مالك وقال: حديث صحيح غريب].
مراتبه:
الناس في التوكل على مراتب، لأن التوكل كغيره من مقامات السير إلى الله تعالى تتدرج مراتبه، ويسمو المؤمن في معارجه على حسب معرفته.
ولهذا عد بعض العارفين ـ كالغزالي وابن عجيبة رحمهما الله تعالى ـ للتوكل ثلاث مراتب:
فالأولى: وهي أدناها، أن تكون مع الله تعالى، كالموكِّل مع الوكيل الشفيق الملاطف.
والثانية: وهي أوسطها، أن تكون مع الله تعالى كالطفل مع أُمه لا يرجع في جميع أُموره إِلا إِليها.
والثالثة: وهي أعلاها، أن تكون مع الله تعالى كالمريض بين يدي الطبيب.
والفرق بين هذه المقامات، أن الأول قد يخطر بباله تهمة. أما الثاني فلا اتهام، ولكن يتعلق بأمه عند الحاجة. أما الثالث فلا اتهام ولا تعلق، لأنه فانٍ عن نفسه، ينظر كل ساعة ما يفعل الله به [انظر "معراج التشوف" ص8].
الخلاصة:
إن التوكل من أعظم ثمار الإِيمان والمعرفة، وأهم أسباب السعادة والطمأنينة، وقد فهمه السادة الصوفية على حقيقته، ونبهوا إلى أنه ليس بترك الأسباب والتخلي عنها، بل هو انحصار الأمل في الله، والالتجاء إلى تدبيره وحكمته، وعدمُ تعلق القلب بالأسباب، لأنها وحدها لا تغني من الله شيئاً.
وهكذا تحقق السادة الصوفية بأعلى مراتب التوكل، فقلوبهم مطمئنة بالله تعالى، معتمدة عليه، واثقة به، متوجهة إليه، مستعينة به لأنه لا فاعل في الوجود سواه.
وأبدانهم تأخذ بالأسباب امتثالاً لأمره، وتمسكاً بشرعه، واقتداء بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.