تأويل كلام السَّادة الصُّوفية
إِن ما نراه في كتب الصوفية من الأمور التي يخالف ظاهرها نصوص الشريعة وأحكامها، هي:
ـ إِما أن تكون مدسوسة عليهم من قبل الزنادقة والحسدة وأعداء الإِسلام كما بيَّنَّا.
ـ وإِما أن يكون كلاماً قابلاً للتأويل، تحدثوا به من باب الإِشارة أو الكناية أو المجاز، كما نرى ذلك في كثير من الكلام العربي، ونجده بارزاً في كتاب الله تعالى في مواطن عديدة، كما في قوله تعالى: {وأُشرِبُوا في قُلوبِهِمُ العِجْلَ} [البقرة: 93]. أي حب العجل.
وقوله تعالى: {واسألِ القريَةَ} [يوسف: 82]. أي أهل القرية.
وقوله عز وجل: {أوَ مَنْ كانَ ميْتاً فأحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. أي كان ميت القلب، فأحياه الله تعالى.
وقوله تعالى: {لتُخرِجَ الناسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النورِ} [إِبراهيم: 1]. أي من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان.
كما نلاحظ في بعض الآيات القرآنية الكريمة تعارضاً في الظاهر، ولكنا لو تعمقنا في فهمها، ودققنا في مدلولها ومتعلقها، لوجدناها قابلة للتأويل، وبذلك لا نستطيع أن نقول: إِن في القرآن تعارضاً أو تصادماً.
فمثلاً ؛ يقول الله تعالى: {إنَّكَ لا تهدِي مَنْ أحبَبْتَ} [القصص: 56]. ويقول في موطن آخر: {وإنَّكَ لَتَهدِي إلى صراطٍ مُستَقيمٍ} [الشورى: 52].
فقد يرى مَنْ ليس عنده علم في التفسير أن بين النصَّيْن تعارضاً ؛ لأن الأول ينفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم الهداية، والثاني يثبت له الهداية. ولكنه لو سأل أهل الذكر لأخبروه أن الهداية في الآية الأولى بمعنى خلْقِ الهداية، وأن معناها في الآية الثانية الدلالة والإِرشاد. فلا تعارض بين النصَّين عند أهلِ الفهم.
وكذلك نجد أن بعض الأحاديث النبوية الشريفة لا يصح حملها على ظاهرها، بل لابد من تأويلها على معان تلائم باقي نصوص الشرع، وتطابق صريح القرآن الكريم، وفي هذا المعنى يقول الإِمام الشعراني رحمه الله تعالى: (وقد أجمع أهل الحق على وجوب تأويل أحاديث الصفات، كحديث: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إِلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخَر ؛ فيقول: من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيَه ؟ من يَستغفرني فأغفرَ له ؟" [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب أبواب التهجد عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء]. وقد بلغ بأحد الضالين أن يقول، وكان على منبر، فنزل درجة منه وقال للناس: ينزل ربكم عن كرسيه إِلى السماء ؛ كنزولي عن منبري هذا، وهذا جهل ليس فوقه جهل) ["التصوف الإِسلامي والإِمام الشعراني" لطه عبد الباقي سرور ص105].
ومن جملة التأويل في الحديث، تأويل حديث "إِن الله خلق آدم على صورته" [رواه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة عن أبي هريرة رضي الله عنه وأول الحديث: "إِذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه.."]. قال العلامة ابن حجر الهيثمي رحمه الله تعالى مؤولاً ذلك: (ويصح أن يكون الضمير لله تعالى كما هو ظاهر السياق، وحينئذٍ يتعين أن المراد بالصورة الصفة، أي أن الله تعالى خلق آدم على أوصافه. من العلم والقدرة وغيرهما، ويؤيد هذا الحديثُ الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: "كان صلى الله عليه وسلم خُلُقُه القرآن" [هذا الحديث فقرة من حديث طويل ولفظه: "قال سعد بن هشام: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ألسْتَ تقرأ القرآن ؟ قلت: بلى، قالت: فإِن خُلُقَ نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن". رواه مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل]، وحديث: "تخلقوا بأخلاق الله تعالى".
فالمطلوب من الكامل أن يطهِّر أخلاقه، وأوصافه من كل نقص، ليحصل له نوعُ تأسٌّ بأخلاق ربه، أي صفاته، وإِلا فشتَّان ما بين أوصاف القديم والحادث. وبهذا التقرير يُعلَم أن هذا الحديث غاية المدح لآدم عليه السلام، حيث أوجد الله فيه صفاتٍ كصفاته تعالى بالمعنى الذي قررته.. إِلى أن قال: والحاصل أن الحديث إِن أعيدَ الضمير فيه لله تعالى، وجب تأويله على ما هو المعروف من مذهب الخلف الذي هو أحكمُ وأعلمُ، خلافاً لفرقة ضلوا عن الحق، وارتكبوا عظائِم من الجهة والتجسيم اللذيْن هما كفر عند كثير من العلماء، أعاذنا الله من ذلك بمنِّه وكرمه) [الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي ص214].
فإِذا كان كلام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وقد أوتي الفصاحة والبلاغة ووضوح اللفظ وإِشراق التعبير وجوامع الكلم ؛ قد احتاج في بعض الأحيان إِلى التأويل ؛ بحمل معانيه على غير ما يفيده ظاهر لفظه، فإِن كلام غيره من أمته ممن لم يبلغ شأوه في البيان والفصاحة قابل للتأويل محتمل للتفسير من باب أولى.
ومن ناحية أخرى، فإِن لكل فن من الفنون أو علم من العلوم كالفقه والحديث والمنطق والنحو والهندسة والجبر والفلسفة اصطلاحات خاصة به، لا يعلمها إِلا أرباب ذلك العلم، فهل يفهم الطبيب اصطلاح المهندس، أو يفهم المهندس اصطلاح الطبيب حين يعبر كل منهما عن آلاته ومسميات فنه ؟
ومن قرأ كتب علم من العلوم دون أن يعرف اصطلاحاته، أو يطلع على رموزه وإِشاراته، فإِنه يؤول الكلام تأويلات شتى مغايرة لما يقصده العلماء، ومناقضة لما يريده الكاتبون فيتيه ويضل.
وللصوفية اصطلاحاتهم التي قامت بعض الشيء مقام العبارة في تصوير مدركاتهم ومواجيدهم، حين عجزت اللغة عن ذلك. فلابد لمن يريد الفهم عنهم من صحبتهم حتى تتضح له عباراتهم، ويتعرف على إِشاراتهم ومصطلحاتهم ؛ فيستبين له أنهم لم يخرجوا عن الكتاب والسنة، ولم ينحرفوا عن الشريعة الغراء، وأنهم هم الفاهمون لروحها، الواقفون على حقيقتها، الحارسون لتراثها.
قال بعض العارفين: (نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقنا) ["اليواقيت والجواهر" للشعراني ج1. ص22]. لأن الغاية من تدوين هذه العلوم إِيصالها لأهلها، فإِذا اطلع عليها مَنْ ليس من أهلها جهلها، ثم عاداها، لأن الإِنسان عدو لما جهل. ولذلك قال السيد علي بن وفا رحمه الله تعالى: (إِنَّ من دَوَّنَ المعارف والأسرار لمْ يدوِّنها للجمهور، بل لو رأى مَنْ يطالع فيها ممَّن ليس هو بأهلها لنهاهُ عنها) [نفس المصدر السابق].
وتوضيحاً للموضوع نقول:
إِن كلام السادة الصوفية في تحذير من لا يفهم كلامهم ولا يعرف اصطلاحاتهم من قراءة هذه الكتب ليس من قبيل كتم العلم، ولكن خوفاً من أن يفهم الناس من كتبهم غير ما يقصدون، وخشية أن يؤولوا كلامهم على غير حقيقته، فيقعوا في الإِنكار والاعتراض، شأن من يجهل علماً من العلوم. لأن المطلوب من المؤمن أن يخاطب الناس بما يناسبهم من الكلام وما يتفق مع مستواهم في العلم والفهم والاستعداد، ولهذا أفرد البخاري في صحيحه باباً في ذلك فقال: "باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وقال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ الله ورسولهُ ؟" ["صحيح البخاري" كتاب العلم]. قال العلامة العيني رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الحديث: (ترك بعض الناس من التخصيص بالعلم لقصور فهمهم، والمراد كلموهم على قدر عقولهم، وفي كتاب العلم لآدم بن إِياس عن عبد الله بن داود عن معروف في آخره: "ودعوا ما ينكرون". أي ما يشتبه عليهم فهمه، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يُذكَر عند العامة. ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه، ذكره مسلم في مقدمة كتابه بسند صحيح قال: "ما أنتَ بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إِلا كان لبعضهم فتنة". لأن الشخص إِذا سمع ما لا يفهمه، وما لا يتصور إِمكانه يعتقد استحالته جهلاً، فلا يصدق وجوده، فإِذا أُسنِدَ إِلى الله ورسوله يلزم تكذيبهما) ["عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للإِمام العيني ج2. ص204ـ205].
19].
وقال العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى في حاشيته شارحاً كلام صاحب الدر المختار، حين سئل عن فصوص الحكم للشيخ محي الدين بن عربي: (يجب الاحتياط ؛ لأنه إِن ثبت افتراؤها فالأمر ظاهر، وإِلا فلا يفهم كل واحد مراده فيها، فيُخشى على الناظر فيها من الإِنكار عليه، أو فهم خلاف المراد. وللحافظ السيوطي رسالة سماها: [تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي]، ذكر فيها أن الناس افترقوا فيه فرقتين: الفرقة المصيبة تعتقد ولايته، والأخرى بخلافها. ثم قال: والقول الفصل عندي فيه طريقة لا يرضاها الفرقتان ؛ وهي اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه، وقد نُقل عنه أنه قال: [نحن قومٌ يحرم النظر في كتبنا]، وذلك أن الصوفية تواطؤوا على ألفاظ، اصطلحوا عليها، وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها بين الفقهاء، فمن حملها على معانيها المتعارفة كفر، نص على ذلك الغزالي في بعض كتبه وقال: إِنه شبيه بالمتشابه في القرآن والسنة، كالوجه واليد والعين والاستواء. وإِذا ثبت أصل الكتاب عنه [عن الشيخ محي الدين] فلابدّ من ثبوتِ كلِّ كلمة لاحتمال أن يُدس فيه ما ليس منه، من قِبَلِ عدو أو ملحد أو زنديق، وثبوتِ أنه قصد بهذه الكلمة المعنى المتعارف، وهذا لا سبيل إِليه، ومن ادَّعاه كفر لأنه من أمور القلب التي لا يطلع عليها إِلا الله تعالى. وقد سأل بعضُ أكابر العلماء بعضَ الصوفية: ما حملكم على أنكم اصطلحتم على هذه الألفاظ التي يُستشنع ظاهرها ؟ فقال: غيرة على طريقنا هذا أن يدَّعيَه من لا يُحْسنه ويدخل فيه من ليس أهله) [حاشية ابن عابدين ج3 ص303].
[/size]