[size=21]يتبين لنا من هذه النصوص التي نقلناها عن الفقهاء الأعلام والسادة الصوفية أمور أهمها:
أـ أنه لا يصح لغير السالك في طريق الصوفية، أن يطالع كتبهم، خشية أن يفهمها على غير حقيقتها، وخلاف ما يريده مؤلفوها ؛ لأنه بعيد عن فهم اصطلاحاتهم، ومعرفة إِشاراتهم.
غير أن كتب الصوفية إِجمالاً تنقسم إِلى ثلاثة أقسام:
1ـ القسم الأول: يبحث عن تصحيح العبادات، وحسن إِقامتها بصورتها وروحها، من الخشوع والحضور فيها مع الله تعالى، مع مراعاة آدابها الظاهرة كذلك.
2ـ القسم الثاني: يبحث في مجاهدة النفس وتزكيتها، والقلب وأحواله ؛ من تخليته عن صفاته الناقصة كالشكوك والوساوس والرياء والحقد والغل والسمعة والجاه والحسد وغيرها من الصفات المذمومة. وتحليته بالصفات الكاملة كالتوبة والتوكل والرضا والتسليم والمحبة والإِخلاص، والصدق والخشوع والمراقبة وغيرها من الصفات الحسنة.
وهذان القسمان مذكوران في كتاب الإِحياء للإِمام الغزالي، وقوت القلوب لأبي طالب المكي، وأمثالهما. وتسمى هذه العلوم علومَ المعاملة.
3ـ القسم الثالث: يبحث عن المعارف الربانية والعلوم الوهبية والأذواق الوجدانية والحقائق الكشفية. ومعظم كتب الشيخ محي الدين ابن عربي رحمه الله تعالى من هذا القسم ؛ كالفتوحات المكية والفصوص. وكذلك كتاب الإِنسان الكامل للشيخ عبد الكريم الجيلي رحمه الله تعالى. وعلى أمثال هذه الكتب ينصبُّ التحذير من قراءتها لغير السالكين العارفين من الصوفية. وتسمى هذه العلوم علومَ المكاشفة.
ب ـ أن التصوف لا يُنال بقراءة الكتب، ولا بمعرفة الاصطلاحات بل لابد من السلوك مع رجاله ومجالسة أهله. قال الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى: (سمعت سيدي علياً الخواص رضي الله عنه يقول: إِياك أن تعتقد يا أخي إِذا طالعت كتب القوم، وعرفت مصطلحهم في ألفاظهم أنك صرت صوفياً، إِنما التصوف التخلق بأخلاقهم، ومعرفة طرق استنباطهم لجميع الآداب والأخلاق التي تحلَّوْا بها من الكتاب والسنة) [لطائف المنن والأخلاق للشعراني ج2 ص149].
ج ـ أن السادة الصوفية إِنما وضعوا هذه الرموز والإِشارات كي لا يأخذ علمهم إِلا مَنْ سار في طريقهم. وقد بينا أن التصوف لا ينال بقراءة الأوراق، بل بصحبة أهل الأذواق.
د ـ أن النصوص التي فيها الكفر والزيغ والمُرُوق من الدين مدسوسة على القوم حتماً، لما رأيتَ من تمسكهم بالكتاب والسنة مما مر معك مِنْ نُقُول.
هـ ـ أن ما ثبت عنهم بالتأكيد، ويمكن تأويله وحمله على وجه صحيح من عقيدة أهل الحق ؛ أهل السنة والجماعة، وجب تأويله عليها، لأنها هي عقيدتهم التي يعتقدونها ويصرحون بها، ويُثبتونها دائماً في مقدمات كتبهم كما هي سنتهم، وانظر إِن شئت مقدمة الرسالة القشيرية، والفتوحات المكية، والتعرُّفَ لمذهب أهل التصوف، وإِحياء علوم الدين وغيرها من الكتب.
و ـ أن ما نسب إِليهم مما لا يمكن تأويله على وجه صحيح، إِن صح عنهم فهو مردود على صاحبه، لا نسلمه له ولا نعتقده، بل نقول بكفر مُعْتَقَدِه، ولكنا لا نكفر شخصاً معيناً، لأنا لا ندري خاتمته، ولأننا مسؤولون أولاً وآخراً عن عقيدة أهل الحق، أهل السنة والجماعة، لا عن عقيدة أي إِنسان آخر.
وإِليك أيها القارىء الكريم بعض الأمثلة عن أُمور وعبارات أنكرها الجاهلون، فتحاملوا على الصوفية ووصَموهم بالخروج عن الشريعة، ولكنك حين تفهم مرادهم، وتطلع على قصدهم، يتبين لك أن إِنكار المنكرين كان إِما عن جهل وتسرع، أوعن حسد وتحامل.
1ـ يقول الإِمام الشعراني رحمه الله تعالى: (مما نُقِلَ عن القوم قولهم: [دخلنا حضرةَ الله، وخرجنا عن حضرةِ الله]. ليس مرادهم بحضرة الله عز وجل مكاناً معيناً، فإِن ذلك ربما يُفهم منه التحيُّزُ للحق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإِنما مرادهم بالحضرة حيث أطلقوا شهودُ أحدهم أنه بين يدي ربه عز وجل، فما دام يشهد أنه بين يديْ ربه عز وجل فهو في حضرته، فإِذا حُجب خرج عن حضرته) [لطائف المنن والأخلاق للشعراني ج1. ص127].
2ـ وقال الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى: (كنت ذات يوم مع بعض إِخواني فأنشدت قائلاً:
يا مَنْ يراني ولا أراه كم ذا أراهُ ولا يراني
فقال ذلك الأخ الذي كان معي لما سمع هذا البيت: كيف تقول إِنه لا يراك، وأنت تعلم أنه يراك ؟ قال: فقلت مرتجلاً:
يا مَنْ يراني مذنباً ولا أراه آخذاً
كم ذا أراه منعِماً ولا يراني لائِذاً
[كتاب النصرة النبوية للشيخ مصطفى المدني على هامش الرائية ص82].
3ـ وقال الشعراني رحمه الله تعالى: (ومما نقل عن الغزالي أنه قال: [ليس في الإِمكان أبدع مما كان]. ولعل مراده رضي الله تعالى عنه أن جميع الممكنات أبرزها الله على صورةِ ما كانت في علمه تعالى القديم، وعلمه القديم لا يقبل الزيادة، وفي القرآن العظيم: {أعْطَى كُلَّ شيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50]. فلو صح أن في الإِمكان أبدع مما كان، ولم يسبق به علم الله تعالى للزم عليه تقدم جهل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً،وهذا هو معنى قول الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى في تأويل ذلك: إِن كلام حجة الإِسلام في غاية التحقيق، لأنه ما ثَمَّ إِلا رتبتان: قِدَمٌ وحدوث ؛ فالحق تعالى له رتبة القِدَم، والحادث له رتبة الحدوث، فلو خلق الله تعالى ما خلق إِلى ما لا يتناهى عقلاً، فلا يرقى عن رتبة الحدوث إِلى رتبة القدم أبداً) ["لطائف المنن والأخلاق" للشعراني ج1. ص126].
4ـ وقال محمد أبو المواهب الشاذلي رحمه الله تعالى مؤولاً كلام أبي يزيد رحمه الله تعالى: [خضْنا بحراً وقفتْ الأنبياء بساحله]. (قلنا: خاض العارفون بحر التوحيد أولاً بالدليل ؛ وبعد ذلك وصلوا إِلى مرتبة الشهود والعيان، والأنبياء عليهم السلام وقفوا بأول وهلة على ساحل العيان، ثم وصلوا إِلى ما لا يعبر عنه بالعرفان. فكانت بدايتهم عليهم السلام نهاية العارفين) [قوانين حكم الإِشراق إِلى كافة الصوفية في جميع الآفاق، قانون الولاية الخاصة ص58].
5ـ ومما نقل عن أبي الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى قوله: [يصل الولي إِلى رتبة يزول عنه فيها كلفة التكليف]. فأجاب أبو المواهب بقوله: (قلنا: يكون الولي أولاً يجد كلفة التعب، فإِذا وصل،وجد بالتكليف الراحة والطرب، من باب قوله صلى الله عليه وسلم: "أرحْنا بها يا بلال" [يا بلال أرحنا بالصلاة. رواه الإِمام أحمد في مسنده. ورواه أبو داود في كتاب الأدب: باب في صلاة العتمة يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها عن سالم بن أبي الجعد]. ذلك مقصد الرجال) ["قوانين حكم الإِشراق" ص59].
6ـ ومن الكلمات التي لها تأويل شرعي صحيح كلمة [مدد] التي يُردِّدها بعض الصوفية، فينادي بها أحدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يخاطب بها شيخه.
وحجة المعترِض عليهم أن هذه الكلمة هي سؤال لغير الله واستعانة بسواه ولا يجوز السؤال إِلا له ولا الاستعانة إِلا به ؛ حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِذا سألت فاسأل الله، وإِذا استعنت فاستعن بالله" [أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقال: حديث حسن صحيح]، ثم إِن الله تعالى بيَّن في كتابه العزيز أنه هو مصدر الإِمداد حين قال: {كُلاً نُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عطاءِ ربِّك...} [الإِسراء: 20].
وقد جهل هؤلاء المعترضون أن السادة الصوفية هم أهل التوحيد الخالص، الذين يأخذون بيد مريديهم ليذيقوهم حلاوة الإِيمان، وصفاء اليقين ؛ ويخلصوهم من شوائب الشرك في جميع صوره وأنواعه.
ولتوضيح المراد من كلمة [مدد] نقول: لابد للمؤمن في جميع أحواله أن تكون له نظرتان:
ـ نظرية توحيدية لله تعالى، بأنه وحده مسبب الأسباب، والفاعل المطلق في هذا الكون، المنفردُ بالإِيجاد والإِمداد، ولا يجوز للعبد أن يشرك معه أحداً من خلقه، مهما علا قدره أو سمت رتبته من نبي أو ولي.
وصلة المريد هي صلة روحية، لا تفصلها المسافات ولا الحواجز المادية، وإِذا كانت الجُدُر والمسافات لا تفصل أصوات الأثير فكيف تفصل بين الأرواح المطلقة ؟! لذا قالوا: (شيخك هو الذي ينفعك بُعدُه كما ينفعك قربُه) وبما أن الشيخ هو سبب هداية المريد ؛ فإِن المريد إِذا تعلق بشيخه، وطلب منه المدد، لا يكون قد أشرك بالله تعالى، لأنه يلاحظ هنا السبب، كما أوضحناه سابقاً، مع اعتقاده أن الهاديَ والمُمِدَّ هو الله تعالى، وأن الشيخ ليس إِلا سبباً، أقامه الله لهداية خلقه، وإِمدادهم بالنفحات القلبية، والتوجيهات الشرعية. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو البحر الزاخر الذي يستمد منه هؤلاء الشيوخ وعنه يصدرون.
فإِذا سلمنا بقيام الصلة الروحية بين المريد وشيخه، سلمنا بقيام المدد المترتب عليها، لأن الله يرزق البعض بالبعض في أمر الدين والدنيا.
ولعل القارىء الكريم بعد هذا، قد اكتفى بهذه الأمثلة من كلام القوم، وبتلك النقول الصريحة من عباراتهم، حتى إِذا ما رأى كلاماً مشتبهاً يحتمل ويحتمل، أحسن الظن بهم، والتمس سبلاً لتأويل كلامهم بعد أن تبين له أن التأويل جائز في كلام الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الفقهاء والمحدثين والأصوليين والنحويين وغيرهم. ولهذا قال الإِمام النووي رحمه الله تعالى: (يحرم على كل عاقل أن يسيء الظن بأحد من أولياء الله عز وجل، ويجب عليه أن يؤول أقوالهم وأفعالهم مادام لم يلحق بدرجتهم، ولا يعجز عن ذلك إِلا قليل التوفيق) ["اليواقيت والجواهر" ج1. ص11].
[/size]